فصل: باب قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَابُ الخُمُس

فَرْضُ الخُمُسِ

فيه‏:‏ عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِىَ، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرْسِى، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَىَّ مَتَاعًا مِنَ الأقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَاىَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَرَجَعْتُ، حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَاىَ قَدِ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَىَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، فَقُلْتُ‏:‏ مَنْ فَعَلَ هَذَا‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ، فِى شَرْبٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى وَجْهِى الَّذِى لَقِيتُ، فَقَالَ‏:‏ مَا لَكَ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَىَّ؛ فَاجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَذا هُوَ ذَا فِى بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ، فَدَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ، فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُمْ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ‏:‏ هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، وَخَرَجْنَا مَعَهُ‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بنَت الرسول سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ‏)‏، فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَتْ‏:‏ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ‏:‏ لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ، إِلا عَمِلْتُ بِهِ فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ، فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ، فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ، وَقَالَ‏:‏ هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِى تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِىَ الأمْرَ، قَالَ‏:‏ فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ‏.‏

وفيه‏:‏ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ، كنا عند عُمَر إذا جاء حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ‏:‏ هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، يَسْتَأْذِنُونَ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَأ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلا فَسَلَّمَا فَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ بَنِى النَّضِيرِ، فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ، قَالَ الرَّهْطُ‏:‏ قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ‏:‏ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ ذَلِكَ‏؟‏ قَالا‏:‏ قَدْ قَالَ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر 6‏]‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَدِيرٌ ‏(‏فَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ‏:‏ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِى بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَا تُكَلِّمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِى يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِى هَذَا- يُرِيدُ عَلِيًّا- يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ‏:‏ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ‏؟‏ قَالَ الرَّهْطُ‏:‏ نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ‏:‏ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ‏؟‏ قَالا‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَتَلْتَمِسَأن مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ لا أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا، فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ؛ فَإِنِّى أَكْفِيكُمَاهَا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما قول على‏:‏ أعطانى النبى صلى الله عليه وسلم شارفًا من الخمس‏:‏ يعنى يوم بدر، فظاهره أن الخمس قد كان يوم بدر، ولم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر‏.‏

ذكر إسماعيل ابن إسحاق قال‏:‏ فى غزوة بنى قريظة حين حكم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية قيل‏:‏ إنه أول يوم جعل فيه الخمس‏.‏

قال‏:‏ وأحسب أن بعضهم قال‏:‏ نزل أمر الخمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيان شاف، وإنما جاء أمر الخمس يقينًا فى غنائم حنين، وهى آخر غنيمة حضرها رسول الله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإذا لم يختلف أن الخمس لم يكن يوم بدر فيحتاج قول على‏:‏ أعطانى رسول الله شارفًا من الخمس إلى تأويل لا يعارض قول أهل السير، ويحتمل أن يكون معناه والله أعلم ما ذكره ابن إسحاق أن النبى بعث عبد الله بن جحش فى رجب فى السنة الثانية من الهجرة قبل بدر الأولى فى سرية إلى نخلة بين مكة والطائف فوجد بها قريشًا، فقتلوهم وأخذوا العير‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ذكر لى بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه‏:‏ إن لرسول الله مما غنمنا الخمس‏.‏

وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغنم فعزل لرسول الله خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، فوقع فرض الله فى قسمة الغنائم على ما كان عبد الله صنع فى تلك العير، ثم خرج رسول الله فى رمضان بعد هذه السرية إلى بدر فقتل بها صناديد الكفار‏.‏

فبان بهذا الخبر معنى قول على أن الرسول أعطاه شارفًا من نصيبه من المغنم يوم بدر ‏(‏وأعطانى رسول الله شارفًا من الخمس يومئذ‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى الخمس كيف يقسمه الإمام، فقال مالك‏:‏ يسلك الخمس مسلك الفيء، فإن رأى الإمام جعل ذلك لنوائب تنزل بالمسلمين فعل، وإن شاء قسمه فأعطى كل واحد على قدر ما يغنيه، ولا بأس أن يعطى أقرباء رسول الله على قدر اجتهاد الإمام، وكان يرى التفضيل فى العطاء على قدر الحاجة‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ الخمس على ثلاثة أسهم، يقسم سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فيهم، ويؤخذ سهم ذوى القربى وسهم النبى فيردان فى الكراع والسلاح‏.‏

واحتج أبو حنيفة بما رواه الثورى عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية أنهم اختلفوا فى سهم الرسول وسهم ذوى القربى، فقال‏:‏ سهم الرسول للخليفة بعده‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ سهم ذوى القربى هو لقرابة الرسول‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو لقرابة الخليفة‏.‏

فأجمع رأيهم أنهم جعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل، فكان ذلك فى خلافة أبى بكر وعمر‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ ولا يجوز أن يبطل عمر ولا غيره سهم ذوى القربى؛ لأنه مسمى فى كتاب الله ولم ينسخه شيء، ومن أبطله فقد ركب أمرًا عظيمًا‏.‏

وزعم الشافعى أن الخمس يقسم على خمسة أخماس، فيرد سهم النبى صلى الله عليه وسلم على من سمى معه من أهل الصدقات وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وزعم أن قوله‏:‏ ‏(‏لله ‏(‏مفتاح كلام‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ ويسقط أبو حنيفة سهم ذوى القربى وأخذ فى طرف، وأخذ الشافعى فى طرف آخر وترك التوسط من القول الذى مضى عليه الأئمة‏.‏

والاختلاف الذى اختلفوا فيه لم يكن على ما توهم أبو حنيفة وإنما روى ابن عباس أنهم ناظروا عمر فى سهم ذوى القربى على أن يكون لهم خمس الخمس فأبى عمر من ذلك، وذهب إلى أن الخمس يقسم فى ذوى القربى وغيرهم على الاجتهاد‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لله ‏(‏وقد ذكر الله فى كتابه‏:‏ ‏(‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ‏(‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول ‏(‏فأى كلام جاء بعد هذا فيكون هذا مفتاحًا له‏.‏

وإذا قيل‏:‏ ‏(‏لله‏)‏ فهو أمر مفهوم اللفظ والمعنى؛ لأنه يعلم أن الرجل إذا قال‏:‏ فعلت هذا الشيء لله أنه فيما يقرب إلى الله، وهذا لا يحتاج أن يقال فيه‏:‏ مفتاح كلام‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ‏(‏معناه فيما يقرب من الله ورسوله، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز فى قوله‏:‏ ‏(‏لله ‏(‏قال‏:‏ اجعلوه فى سبيل الله التى يأمر بها، ولو كان قوله‏:‏ ‏(‏الله ‏(‏لا يوجب شيئًا لكان ما بعده لا يوجب شيئًا؛ لأن ما بعده معطوف عليه، فإن كان القول الأول لا يجب به شيء فكذلك ما عطف عليه لا يجب به شيء‏.‏

وأما حديث تنازع على والعباس فلم يتنازعا فى الخمس، وإنما تنازعا فيما كان لرسول الله خاصا مما لم يوجف عليه بخيل ولاركاب فتركه الرسول صدقة بعد وفاته، فحكمه كحكم الفيء، ففيه حجة لمالك فى قوله‏:‏ إن مجرى الخمس والفئ واحد، وهو خلاف قول الشافعى أن الفئ فيه الخمس، وأن خمس الفيء يقسم على خمسة أسهم وهم الذين قسم الله لهم خمس الغنيمة‏.‏

وهذا لم يقله أحد قبل الشافعى، والناس على خلافه‏.‏

وقول عمر فى حديث مالك ابن أوس‏:‏ ‏(‏فكان الرسول ينفق على أهله منه نفقة سنتهم، ثم يأخذ ما بقى منه فيجعله مجعل ما لله‏)‏ يعنى‏:‏ مجعل الفيء، ولم يذكر أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزمه إخراج الخمس منه حجة على الشافعى؛ لأنه يمكن أن يفضل له من سهمه بخيبر بعد نفقة سنته مثل الذى ينفقه أو أكثر أو أقل، ولو كان فيه الخمس لبين ذلك‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وقول الشافعى فى الفيء أنه يخمس خطأ؛ لأن الله تعالى ذكر الغنائم فأوجب فيها الخمس، وذكر الفئ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ‏(‏فذكر فيه الرسول وذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال تعالى فى آية الخمس، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ‏(‏‏)‏ والذين جاءوا من بعدهم ‏(‏فذكر فى الغنائم الخمس لأصناف مذكورين، وذكر فى آية الفيء الجميع فى جميع الفيء، حيث أن حكم الفيء غير حكم الغنيمة‏.‏

قال المهلب‏:‏ ووجه هجران فاطمة لأبى بكر أنها لم يكن عندها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نورث، ما تركنا صدقة‏)‏ ولا علمته، ثم أنفت أن تكون لا ترث أباها كما يرث الناس فى الإسلام والجاهلية، مع احتمال الحديث عندها أنه صلى الله عليه وسلم أراد بعض المال دون بعض، وأنه لم يرد به الأصول والعقار، فانقادت وسلمت للحديث‏.‏

وإنما كان هجرها له اقباضًا عن لقائه وترك مواصله وليس هذا من الهجران المحرم، و إنما المحرم من ذلك أن يلتقيا فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا بذلك متهاجرين إلا أن تكون النفوس مظهرة للعداوة والهجران، لكنها وجدت عليه أن حرمها ما لم يحرم أحد‏.‏

ولسنا نظن بهم إضمار الشحناء والعداوة، وإنما هم كما وصفهم الله‏)‏ رحماء بينهم ‏(‏وروى عن على أنه لم يغير شيئًا من سنة أبى بكر وعمر بعد ولايته فى تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أجرى الأمر على ما أجرياه فى حياتهما‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى حديث عائشة فى هذا الباب، وليس فيه ذكر الخمس‏؟‏ قيل‏:‏ هو موافق للباب؛ وذلك أن فاطمة إنما جاءت تسأل ميراثها من الرسول من فدك وخيبر وغيرهما، وفدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يجر فيها خمس‏.‏

و أما خيبر فابن شهاب ذكر أن بعضها صلح وبعضها عنوة، فجرى فيها الخمس‏.‏

وقد جاء هذا فى بعض طرق الحديث فى كتاب المغازى قالت عائشة‏:‏ ‏(‏إن فاطمة جاءت تسأل نصيبها مما ترك الرسول مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وإلى ما بقى من خمس خيبر‏)‏ وإلى هذا إشارة البخارى، واستغنى بشهرة الأمر عن إيراده مكشوفًا بلفظ ‏(‏الخمس‏)‏ فى هذا الباب‏.‏

وفى حديث مالك بن أوس من الفقه أنه يجب أن يولى أمر كل قبيلة سيدهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم لعلمه بهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن للإمام أن ينادى الرجل الشريف باسمه وبالترخيم له، ولا عار على المنادى بذلك ولا نقيصة‏.‏

وفيه‏:‏ استعفاء الإمام مما يوليه، واستنزاله فى ذلك بألين الكلام؛ لقول مالك لعمر حين أمره بقسمة المال بين قومه‏:‏ ‏(‏لو أمرت به غيري‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ الجلوس بين يدى السلطان بغير إذنه‏.‏

وفيه‏:‏ الشفاعة عند الإمام فى إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور وخشى الفساد بين المتخاصمين؛ لقول عثمان‏:‏ ‏(‏اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر‏)‏ وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا والعباس استبا يومئذ‏.‏

وفيه‏:‏ تقرير الإمام من يشهد له على قضائه وحكمه، وبيان وجه حكمه للناس‏.‏

وأما مجيء العباس وعلى إلى أبى بكر فإنما جاءا يطلبان الميراث من تركة النبى من أرضه من فدك وسهمه من خيبر وصدقته بالمدينة على ما ثبت من حديث عائشة فى هذا الباب، فأخبرهم أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نورث، ما تركنا صدقة‏)‏ فسلما لذلك وانقادا، ثم جاءا بعد ذلك إلى عمر على اتفاق بينهما، يطلبان أن يوليهما العمل، والنظر فيما أفاء الله على رسوله من بنى النضير خاصة؛ ليقوما به، ويسبلاه فى السبل التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يسبله فيها؛ إذ كانت عند ذلك مصروفة فى تقوية الإسلام وأهله، وسد خلة أهل الحاجة منهم، فدفعه عمر إليهما على الإشاعة بينهما والتساوى والاشتراك فى النظر والأجرة‏.‏

وأما مجيئهما إليه المرة الثانية فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يطلب كل واحد منهما أن ينفرد بالعمل كله، أو ينفرد بنصيبه؛ فرا من الإشاعة؛ لما يقع بين العمال والخدم من التنازع، فأبى عمر أن يكون إلا على الإشاعة؛ لأنه لو أفرد واحدًا منهما بالعمل والنظر لكان وجهًا من وجوه الأثرة، فتناسخ القرون وهى بيد بعض قرابة الرسول دون بعض فيستحقها الذى هى بيده، ولم ير أن يجعلها نصفين على غير الإشاعة؛ لأن سنة الأوقاف ألا تقسم بين أهلها، وإنما يقسم علاتها، فلذلك حلف أن يتركها مجملة ولا يقسمها بينهم، فيشبه ذلك التوريث، والله أعلم‏.‏

وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا غلب العباس على هذه الصدقة ومنعه منها، ثم كانت بيد بنى على بعده يتداولونها‏.‏

وجميع ما تركه الرسول من الأصول وما جرى مجراها مما يمكن بقاء أصله والانتفاع به، فحكمه حكم الأوقاف تجرى علاتها على المساكين، والأصل باق على ملك الموقف، فقوله‏:‏ ‏(‏ما تركنا صدقة‏)‏ يعنى‏:‏ صدقة موقوفة، وسيأتى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نورث، ما تركنا صدقة‏)‏ فى كتاب الفرائض إن شاء الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏إن الله خص رسوله‏)‏ فخصه بإحلال الغنيمة ولم تحل لأحد قبله، وخصه بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار تكون له دون سائر الناس، وخصه بنصيبه فى الخمس، وهذا معنى ذكر هذا الحديث فى باب فرض الخمس، وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق، وذلك إذا ظن بأحد أنه يريد تنقصه‏.‏

وفيه‏:‏ جواز ادخار الرجل لنفسه وأهله قوت السنة، وأن ذلك كان من فعل الرسول حين فتح الله عليه من النضير وفدك وغيرهما، وهو خلاف قول جملة الصوفية المنكرة للادخار، الزاعمين أن من أدخر فقد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله‏.‏

وفيه‏:‏ إباحة اتخاذ العقار التى يبتغى منها الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتخاذ نظائر ذلك من المغنم وأعيان الذهب والفضة كسائر الأموال التى يراد بها النماء والمنافع لطلب المعاش وأصولها ثابتة، وستأتى هذه المسألة فى باب ‏(‏نفقة النبى بعد وفاته‏)‏ بزيادة فيها، ويأتى أيضًا فى كتاب الأطعمة إن شاء الله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه من الفقه أن أبا بكر قضى على العباس وفاطمة بقول رسول الله‏:‏ ‏(‏لا نورث‏)‏ ولم يحاكمهما فى ذلك إلى أحد غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمة الحكم بعلومهم، لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم، بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم مما يعلم صحة أمره رعيتهم، أو يعلمه منهم من أن يحتاجوا إلى شهادته إن أنكر بعض ما حكموا به من ذلك عليهم بعض رعيتهم، كان فى شهادتهم لهم براءة ساحاتهم، وثبوت الحجة لهم على المحكوم عليه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى حديث على أن المسلمين كانوا فى أول الإسلام يشربون الخمر ويسمعون الغناء حتى نهى الله عن ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون ‏(‏وسيأتى ما فى سماع الغناء عن السلف فى كتاب الاستئذان وفى كتاب فضائل القرآن، وقد تقدم منه شيء في كتاب صلاة العيدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏رجع القهقرى‏)‏ قال الأخفش‏:‏ يعنى‏:‏ رجع وراءه ووجهه إليك‏.‏

وقوله فى حديث عمر‏:‏ ‏(‏متع النهار‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ متع النهار متوعًا، وذلك قبل الزوال‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏تيدكم أنشدكم بالله‏)‏ فذكر الكسائى فى كتابه الذى شرحه‏:‏ رويد زيد وتيد زيدًا ورويدًا زيدًا بمعنى واحد، ومعناه‏:‏ أمهل زيدًا، ومن روى‏:‏ أتيدكم، فلا يجوز فى العربية؛ لأن أتاد لا يتعدى إلى مفعول، لا تقول‏:‏ أتادت زيدًا، وإنما تقول‏:‏ تدكم، كما تقول رويدكم، ومن روى‏:‏ أجبت أسنمتها، فلا يعرف ذلك فى اللغة، إنما تقول العرب‏:‏ جب الشيء إذا قطع منه، ومنه قيل للذى قطع إحليله فاستؤصل‏:‏ مجبوب، ومن رواه‏:‏ اجتبت فهو جائز‏.‏

والثمل‏:‏ السكران‏.‏

وسأذكر ما فى هذا الحديث من الغريب فى كتاب المياه فى باب‏:‏ بيع الحطب والكلأ إن شاء الله‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث فى إبطال أحكام السكران وقالوا‏:‏ لو لزم السكران ما يكون منه فى حال سكره كما كان يلزمه فى حال صحوه لكان المخاطب رسول الله بما استقبله به حمزة كافرًا مباح الدم‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ وقد ذهب على هذا القائل أن ذلك كان منه إنما كان قبل تحريم الخمر وفى زمان كان شربها مباحًا، وإنما حرمت الخمر بعد غزوة أحد‏.‏

قال جابر‏:‏ ‏(‏اصطبح الناس الخمر يوم أحد، ثم قتلوا آخر النهار شهداء‏)‏ فأما وقت شربت فشربها معصية، وما تولد منها لازم، ورخص الله ما تلحق العاصي‏.‏

قال المهلب‏:‏ ذهب الخطابى إلى أنه لما كانت الخمر مباحة وقت شربها كان ما تولد منها بالسكر من الجفاء على النبى لا تلزم فيه عقوبة، فعذره صلى الله عليه وسلم لتحليل الخمر مع أنه كان شديد التوقير لعمه والتعظيم له والبر به‏.‏

فأما اليوم والخمر محرمة فيلزم السكران حد الفرية وجميع الحدود؛ لأنه سبب زوال عقله من فعل محرم عليه، وأما ضمان إتلاف الناقتين فلزم حمزة ضمانهما لو طالبه على بذلك ويمكن أن يعوضه النبى منهما؛ إذ العلماء لا يختلفون أن جنايات الأموال لا تسقط عن المجانين وغير المكلفين، ويلزمهم ضمانها فى كل حال كما يلزم العقلاء‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما تقول فيمن سكر من لبن أو طعام أو دواء مباح فقذف غيره‏؟‏ والجواب‏:‏ أن يحمل محمل المجنون والمغمى عليه والصبى يسقط حد القذف وسائر الحدود غير إتلاف الأموال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم‏)‏ فمن سكر من شيء حلال فحكمه حكم هؤلاء‏.‏

وقد بلغنى عن الفقيه أبى عبد الله بن الفخار أنه كان يقول‏:‏ من سكر من لبن أو طعام حلال أنه لا يلزمه طلاق إن طلق فى حاله تلك‏.‏

وحكى الطحاوى أنه إجماع من العلماء‏.‏

باب‏:‏ أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الدِّين

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ، وَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا هَذَا الْحَىَّ مِنْ رَبِيعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، الإيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ‏:‏ الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد تقدم هذا الباب فى كتاب الإيمان وترجم له ‏(‏باب أداء الخمس من الإيمان‏)‏ وذلك بين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع فبدأ بالإيمان بالله وختم بأن تؤدوا إلى الله الخمس، فدخل ذلك فى جملة الإيمان، وإنما لم يأمرهم بالحج؛ لأنه لم يكن نزل حينئذ فرض الحج، وأمرهم بأداء الخمس؛ لأنه لا يكون الخمس إلا من جهاد، وأمرهم بالجهاد داخل فى أمرهم بالخمس، وإنما قصد إلى أداء الخمس؛ لأن كل من بايع لم يبايع إلا على الجهاد، وكان عبد القيس أهل غارات، ولم يعرفوا أن يؤدوا منها شيئًا؛ لأنهم كانوا من فتاك العرب، فقصد لهم صلى الله عليه وسلم إلى إنهاء ما كانوا عليه من الباطل فذمه لهم، ونهاهم عن أشياء كلها فى معنى الانتباذ؛ لأنهم كانوا كثيرًا يفعلونه، فقصد لهم إلى الظروف التى كانوا يتذرعون فيها إلى السكر لإسراع النبيذ إلى السكر فيها، ونسخ ذلك صلى الله عليه وسلم بعد هذا لما أمن منهم التذرع إلى الدباء والمزفت على ما يأتى فى كتاب الأشربة- إن شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولسنا نصل إليك إلا فى الشهر الحرام‏)‏ إنما قال ذلك لأن كفار العرب كانوا لا يقاتلون فى الأشهر الحرم، ولا يحملون السلاح فيها‏.‏

باب‏:‏ نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى، وَمَئُونَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ؛ فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ‏.‏

وفيه‏:‏ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً‏.‏

قال الطبرى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا‏)‏ ليس بمعنى النهى؛ لأنه لم يترك صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا يقتسم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة بوسق من شعير، ولا يجوز النهى عما لا سبيل إلى فعله، وإنما ينهى المرء عما يمكن وقوعه منه‏.‏

ومعنى الخبر أنه ليس تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا؛ لأنى لا أخلفهما بعدي‏.‏

وقال غيره‏:‏ إنما استثنى صلى الله عليه وسلم نفقة نسائه بعد موته؛ لأنهن حبوسات عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏مئونة عاملي‏)‏ يريد عامل نخله فيما خصه الله به من الفيء فى فدك وبنى النضير، وسهمه بخيبر مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكان له من ذلك نفقته ونفقة أهله وجعل سائره فى نفع المسلمين‏.‏

وجرت النفقة بعده من ذلك على أزواجه وعلى عمال الحوائط إلى أيام عمر، فخير عمر أزواجه بين أن يتمادى على ذلك أو يقطع لهن قطائع، فاختارت عائشة وحفصة أن يقطع لهما قطائع فقطع لهما فى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وأخرجهما عن حصتهما من ثمرة تلك الحيطان، فملكتا ما أقطعهما عمر من ذلك إلى أن ماتتا وورث عنهما‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه من الفقه أن من كان مشتغلا من الأعمال بما فيه لله بر وللعبد عليه من الله أجر أنه يجوز أخذ الرزق على اشتغاله به إذا كان فى قيامه سقوط مئونة عن جماعة من المسلمين أو عن كافتهم، وفساد قول من حرم ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ أخذ الأجور على أعمالهم، والمؤذنين أخذ الأرزاق على تأذينهم، والمعلمين على تعليمهم‏.‏

وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل لولى الأمر بعده فيما كان أفاء الله عليه مؤنته، وإنما جعل ذلك لاشتغاله، فبان أن كل قيم بأمر من أمور المسلمين مما يعمهم نفعه سبيله سبيل عامل النبى صلى الله عليه وسلم فى أن له المئونة فى بيت مال المسلمين والكفاية ما دام مشتغلا به، وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء وسائر أهل الشغل بمنافع الإسلام‏.‏

وفى حديث أبى هريرة من الفقه الدلالة البينة على أن الله أباح لعباده المؤمنين اتخاذ الأموال والضياع ما يسعهم لأقواتهم وأقوات أهليهم وعيالهم، ولما ينوب من النوائب ويفضل عن الكفاية؛ لأن الرسول جعل الفضل عن نفقة أهله للسنة ومئونة عامله صدقة، فكذلك كان هو يأخذ فى حياته، فكان يأخذ ما بقى فيجعله فيما أراه الله من قوة الإسلام، ومنافع أهله، والخيل والسلاح، وما يمكن صرفه فى ذلك فهو مال كثير‏.‏

وفى ذلك الدليل الواضح على جواز اتخاذ الأموال واقتنائها؛ طلب الاستغناء بها عن الحاجة إلى الناس، وصونًا للوجه والنفس استنانًا برسول الله، وأن ذلك أفضل من الفقر والفاقة إذا أدى حق الله منها، ولو كان الفقر أفضل لما كان الرسول يختار أخس المنزلتين عند الله على أرفعهما، بل كان يقسم أمواله وأصوله على أصحابه ولا سيما بين ذوى الحاجة منهم، فبان فساد قول من منع اتخاذ الأموال وادخار الفضل عن قوت يوم وليلة، ووضح خطأ قول من زعم أن التوكل لا يصح لمؤمن على ربه إلا بعد ألا يحتبس بعد غدائه وعشائه شيئًا فى ملكه، وأن احتباسه ذلك يخرجه من معنى التوكل ويدخله فى معنى من أساء الظن بربه‏.‏

ولا يجوز أن يقال أن أحدًا أحسن ظنا بربه من النبى صلى الله عليه وسلم ولا خفاء بفساد قولهم، فإن اعترضوا بما روى عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا‏)‏ فمعنى ذلك‏:‏ لا تتخذوها إذا خفتم على أنفسكم باتخاذها الرغبة فى الدنيا، فأما إذا لم تخافوا ذلك فلا يضركم اتخاذها بدليل اتخاذ النبى صلى الله عليه وسلم لها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏قال النبى عليه السلام لبلال‏:‏ أطعمنا‏.‏

قال‏:‏ ماعندى إلا صبر تمر خبأناه لك‏.‏

قال‏:‏ أما تخشى أن يخسف الله به فى نار جهنم‏؟‏ قال‏:‏ أنفق يا بلال ولا تخف من ذى العرش إقلالا‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ كان هذا منه فى حال ضيق عندهم، فكان يأمر أهل السعة أن يعودوا بفضلهم على أهل الحاجة حتى فتح الله عليهم الفتوح ووسع على أصحابه فى المعاش، فوسع على أصحابه فى الاقتناء والادخار إذا أدوا حق الله فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومن أجل ظاهر حديث أبى هريرة والله أعلم طلبت فاطمة ميراثها فى الأصول؛ لأنها وجهت قوله‏:‏ ‏(‏لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا‏)‏ إلى الدنانير والدراهم خاصة، لا إلى الطعام والأثاث والعروض وما يجرى فيه المئونة والنفقة‏.‏

وفيه من الفقه أن الحبس لا يكون بمعنى الوقف حتى يقال فيه صدقة‏.‏

وأما حديث عائشة فإن الشعير الذى كان عندها كان غير مكيل، فكانت البركة فيه من أجل جهلها بكيله، وكانت تظن كل يوم أنه سيفنى لقلة كانت تتوهمها فيه، فلذلك طال عليها، فلما كالته علمت مدة بقائه ففنى عند تمام ذلك الأمر، والله أعلم‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ ولا تبرجن تبرج الجاهلية‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ‏.‏

وقالت‏:‏ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِى، وَفِى نَوْبَتِى وَبَيْن سَحْرِى وَنَحْرِى، وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ‏.‏

وفيه‏:‏ صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ مَعَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُنَا الْفِتْنَةُ، ثَلاثًا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ إن كان لم يورث صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏(‏ما تركنا صدقة‏)‏ فكيف سكن أزواجه بعد وفاته فى مساكنه إن كن لم يرثنه إذا‏؟‏ وكيف لم يخرجن عنها‏؟‏ فالجواب فى ذلك أن طائفة من العلماء قالت‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم إنما جعل لكل امرأة منهن كانت ساكنة فى مسكن مسكنها الذى كانت تسكنه فى حياته، فملكت ذلك فى حياته، فتوفى الرسول يوم توفى وذلك لها، ولو كان صار لهن ذلك من وجه الميراث عنه لم يكن لهن منه إلا الثمن، ثم كان ذلك الثمن أيضًا مشاعًا فى جميع المساكن لجميعهن‏.‏

وفى ترك منازعة العباس وفاطمة إياهن فى ذلك وترك منازعة بعضهن بعضًا، فيه دليل واضح على أن الأمر فى ذلك كما ذكرناه‏.‏

وقد قال تعالى لهن‏:‏ ‏(‏وقرن فى بيوتكن ‏(‏لئلا يخرجن عن منازلهن بعد وفاة الرسول‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما تركن فى المساكن التى سكنها فى حياة النبى؛ لأن ذلك كان من مئونتهن التى كان رسول الله استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته، كما استثنى نفقاتهن حين قال‏:‏ ‏(‏ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة‏)‏ قالوا‏:‏ ويدل على صحة ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكًا لهن كان لا شك يورث عنهن، وفى ترك ورثتهن حقوقهم من ذلك دليل أنه لم يكن لهن ملكًا، وإنما كان لهن سكناه حياتهن، فلما مضين بسبيلهن جعل ذلك زيادة فى المسجد الذى يعم المسلمين نفعه كما فعل ذلك فى الذى كان لهن من النفقات فى تركة رسول الله، صرفه فيما يعم نفعه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا من الفقه أن من سكن حبسًا حازه بالسكنى، وإن كان للمحبس فيه بعض السكنى والانتفاع أن ذلك جائز فى التحبس، ولا ينقض التحبس ما له فيه من الانتفاع اليسير؛ لأن الرسول كان ينتاب كل واحدة منهن فى نوبتها، فليلة من تسع ليال يسير‏.‏

ولذلك قال مالك‏:‏ إن المحبس قد يسكن البيت من الدار التى حبس ولا ينتقض بذلك حوزها‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ السحر والنحر‏:‏ الرية وما يتعلق بالحلقوم‏.‏

باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ

فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ‏:‏ ‏(‏مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّهُ أَخْرَجَ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالانِ، وهما نَعْلا النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو بُرْدَةَ، أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا، وَقَالَتْ‏:‏ فِى هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مرة‏:‏ أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ مُلَبَّدًا‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ قَدَحَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ‏.‏- وفيه‏:‏ عَلِىّ بْنَ حُسَيْنٍ، أنَّهُ لَقِى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، حِينَ قَدِم الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِىٍّ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ‏:‏ هَلْ لَكَ إِلَىَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِى بِهَا‏؟‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ لا، فَقَالَ لَهُ‏:‏ فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِىَّ سَيْفَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ‏؟‏ وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لا يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِى، إِنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِى جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ فِى ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّى، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِى دِينِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ إِلىَ قَوْلِهِ‏:‏ وَاللَّهِ لا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ‏:‏ لَوْ كَانَ عَلِىٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِى عَلِىٌّ‏:‏ اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُوا بها، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ‏:‏ أَغْنِهَا عَنَّا، فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ‏:‏ ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا‏.‏

وقال ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا‏:‏ أَرْسَلَنِى أَبِى، خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى الصَّدَقَةِ‏.‏

قال‏:‏ اتفاق الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم أنه لم يملك أحد درعه ولا عصاه وسيفه وقدحه وخاتمه ونعله، يدل أنهم فهموا من قوله‏:‏ ‏(‏لا نورث، ما تركنا صدقة‏)‏ أنه عام فى صغير الأشياء وكبيرها فصار هذا إجماعًا معصومًا، لأنه لا يجوز على جماعة الصحابة الخطأ فى التأويل، وهذا رد على الشيعة الذين ادعو أن أبا بكر الصديق وعمر بن الحطاب حرما فاطمة والعباس ميراثهما من النبي‏.‏

وقد روى الطبرى قال‏:‏ حدثنا يعقوب ابن إبراهيم، قال‏:‏ حدثنا ابن علية، قال‏:‏ حدثنا أبو إسحاق قال‏:‏ قلت لأبى جعفر‏:‏ أرأيت عليا حين ولى العراق وما كان بيده من سلطانه كيف صنع فى سهم ذى القربى‏؟‏ قال‏:‏ سلك به والله طريق أبى بكر وعمر‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما ذكر هذه الآثار كلها فى هذا الباب لتكون سنة للخلفاء فى الختم واتخاذ الخاتم لما يحتاج فيه إليه، واتخاذ السيف والدرع أيضًا للحرب، وأما الشعر فإنما استعمله الناس على سبيل التبرك به من النبى خاصة، وليس ذلك من غيره بتلك المنزلة، وكذلك النعلان من باب التبرك أيضًا ليس لأحد فى ذلك مزية رسول الله ولا يتبرك من غيره بمثل ذلك‏.‏

وأما طلب المسور لسيف الرسول من على بن حسين، فإنه أراد التبرك به؛ لأنه من أحباس المسلمين، وكان بيدى الحسين، فلما قتل أراد أن يأخذه المسور لئلا يأخذه بنو أمية، ثم حلف إن أعطاه إياه أنه لا يخلص إليه أبدًا، بشاهد من فعل رسول الله على الحلف والقطع على المستقبل ثقة بالله فى إبراره، واشترط فى يمينه شريطة دون ما حلف عليه صلى الله عليه وهى قوله‏:‏ ‏(‏لا يخلص إليه حتى تخلص إلى نفسي‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ إن على بن أبى طالب خطب ابنة أبى جهل على بنت رسول الله، فكره رسول الله ذلك، وخطب الناس، وعرفهم أنه لا يحرم حلالا أحله الله مما يعرضه على من الخطبة على فاطمة، ولكنه أعز نفسه وبنته من أن تضارها بنت عدو الله، وأقسم على الله ألا يجتمعا عند رجل واحد ثقة بالله أنه يبر قسمه صلى الله عليه وسلم، وقد قال‏:‏ ‏(‏رب أشعث ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره‏)‏، والرسول أولى الناس بهذه المنزلة، فأقسم على ذلك لعلمه أن الله قد منع المؤمنين أذاه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ‏(‏وقد قال صلى الله عليه وسلم في ابنته أنه يؤذيه ما يؤذيها، فليس لأحد من المؤمنين أن يفعل شيئًا يتأذى به النبى، وإن كان فعل ذلك له مباحًا، وسيأتى القول فى تمام هذا فى كتاب النكاح فى باب‏:‏ ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة إن شاء الله‏.‏

وفى حديث ابن الحنفية من الفقه أن الإمام إذا نسب إلى خدمته أمر أنه يجب على أصحابه إعلامه بذلك، وإعلام الصواب فيما نسب إليهم، كما فعل على، وما قيل فى سعاة عثمان وشكى فيهم قد يمكن أن يكون باطلاً، كما شكى سعد بن أبى وقاص إلى عمر بالباطل، وقد يجوز أن يكون من بعض سعاة عثمان ما يكون من البشر‏.‏

وأما رد الصحيفة وقوله‏:‏ ‏(‏أغنها عنا‏)‏ فذلك لأنه كان عنده نظير منها ولم يجهلها، لا أنه ردها وليس عنده علم منها، ولأنه قد كان أمر بها سعاته فلا يجوز على عثمان غير هذا‏.‏

وفيه‏:‏ أن الصاحب إذا سمع عن السلطان أمرًا مكروهًا أن ينبه بألطف التنبيه، وأن يسند ذلك إلى من كان قبله كما أسند على أمر الصحيفة إلى رسول الله، وأسند عروة ابن الزبير فى إنكاره على عمر بن عبد العزيز تأخير الصلاة إلى أبى موسى، وأنه أنكر ذلك على المغيرة بن شعبة فاحتج بأسوة تقدمت له فى الإنكار على الأئمة، ثم أسند له الحديث حين رفعه عمر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لو كان على ذاكرًا عثمان‏)‏ بشر ذكره فى هذه القصة، فدل أن عليا عذر عثمان بالتأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا، وقد تقدم فعل أبى بكر وعمر فى باب‏:‏ فرض الخمس‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وأما فعل عثمان فى صدقة النبى صلى الله عليه وسلم فحدثنا ابن حميد، قال‏:‏ حدثنا جرير، عن مغيرة قال‏:‏ ‏(‏لما ولى عمر بن عبد العزيز جمع بنى أمية فقال‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم كانت له فدك فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بنى هاشم ويزوج منهم أيمهم، و أن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك حياة الرسول حتى قبض، ثم ولى أبو بكر فكانت كذلك فعمل فيها بما عمله رسول الله حياته، ثم ولى عمر فعمل فيها مثل ذلك، ثم ولى عثمان فأقطعها مروان، فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك ثلثًا للوليد، وثلثًا لسليمان، وجعل عبد العزيز ثلثه لى، فلما ولى الوليد جعل ثلثه لى، فلم يكن لى مال أعود على ولا أسد لحاجتى منها، ثم وليت أنا فرأيت أن أمرًا منعه النبى صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته أنه ليس لى بحق، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها إلى ما كانت عليه فى عهد رسول الله‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وأما عثمان فإنه كان يرى فى ذلك أنه لقيم أمر المسلمين أن يصرفه فيما رأى صرفه فيه، ولذلك أقطعه مروان وذهب فى ذلك إن شاء الله إلى ما حدثنا أبو كريب قال‏:‏ حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل قال‏:‏ ‏(‏جاءت فاطمة إلى أبى بكر فقالت‏:‏ أنت ورثت رسول الله أم أهله‏؟‏ قال‏:‏ بل ورثه أهله‏.‏

قالت‏:‏ فما بال سهم الرسول‏؟‏ قال‏:‏ سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا أطعم الله نبيا طعمة فقبض، فهو للذى يقوم بعده، فرأيت أن أجعلها فى الكراع والسلاح‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فأنت وما سمعت من رسول الله‏)‏ وبهذا قال الحسن وقتادة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فما وجه هذا الحديث وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة‏)‏ فكيف يكون وهو صدقة ملكًا لمن يقوم بعده‏؟‏ قيل‏:‏ معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فهو للذى يقوم بعده‏)‏ يعمل فيه ما كان صلى الله عليه وسلم يعمل ويسلك به المسلك الذى كان يسلك، لا أنه جعله ملكًا، وهذا التأويل يمنع الخبرين من التنافى‏.‏

فإن قيل‏:‏ وما ينكر أن يكون صدقة له من رسول الله تصدق بها عليه بعد وفاته؛ إذ كانت صدقة التطوع عندك حلال للغنى والفقير، وإنما الحرام منها ما كان فرضًا على الأغنياء؛ لأن الله جعلها لأهل السهمان فى كتابه‏؟‏ قيل‏:‏ أنكرنا ذلك من أجل أنه لو كان كذلك صح أنه كان لأبى بكر ملكًا، ولوجب أن يكون بعد أبى بكر موروثًا عنه، إذ كان أبو بكر قد ورثه أهله، وقيام الحجة بأنه لم يورث عنه، للدلالة الواضحة على أنه لم يكن لولى الأمر من بعد رسول الله ملكًا، وإنما كان إليه صرف علات ذلك فى وجوها وسبلها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى قول أبى بكر لفاطمة‏:‏ بل ورثه أهله‏؟‏ قيل‏:‏ معنى ذلك‏:‏ بل ورثه أهله إن كان خلف شيئًا يورثه، ولم يترك شيئًا يورث عنه؛ لأن ما كان بيده من الأموال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، إنما كان طعمة من الله له، على أن يأكل منه هو وأهله ما احتاج واحتاجوا، ويصرف ما فضل على ذلك فى تقوية الإسلام وأهله، فقبضه الله، ولم يخلف شيئًا هو له ملك يقتسمه أهله عنه ميراثًا‏.‏

ويبين ذلك قول عائشة‏:‏ ‏(‏مات رسول الله، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا بعيرًا ولا شاة، ولقد مات وإن درعه لمرهونة بوسق من شعير‏)‏‏.‏

وقول عثمان‏:‏ ‏(‏أغنها عنا‏)‏ يقول‏:‏ اصرفها عنا، يقال‏:‏ أغنيت عنك كذا‏:‏ صرفته عنك‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ‏(‏يعنى‏:‏ يصرفه‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ أغنى عنك الشيء صرف عنك ما تكره‏.‏

وفى القرآن‏:‏ ‏(‏ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ‏(‏و‏)‏ ما أغنى عنى ماليه ‏(‏وقوله‏:‏ مما يتبرك أصحابه‏.‏

المعنى‏:‏ يتبرك به، وحذف ‏(‏به‏)‏ جائز، كحذفها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر ‏(‏وحذف الأدوات موجود سائغ؛ لقوله‏:‏ ‏(‏يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئًا ‏(‏تقديره‏:‏ تجزى فيه‏.‏

قال الشاعر‏:‏

إن الكريم وأبيك معتمل *** إن لم يجد يومًا على من يتكل

يريد‏:‏ يتكل عليه‏.‏

باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسَاكِينِ

وَإِيثَارِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْىِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فيه‏:‏ عَلِىٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِسَبْىٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ‏:‏ عَلَى مَكَانِكُمَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ‏)‏‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ هذا الحديث شاهد أن الإمام يقسم الخمس حيث رأى على الاجتهاد؛ لأن السبى الذى أتى النبى لا يكون والله أعلم إلا من الخمس؛ إذ كانت الأربعة الأخماس تدفع إلى من حضر الوقعة، ثم منع الرسول أقربيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قال مالك والطحاوى وذهب قوم أن لذوى قرابة رسول الله سهم من الخمس مفروض، لقوله‏:‏ ‏(‏فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى ‏(‏وهم‏:‏ بنو هاشم، وبنو عبد المطلب خاصة، لإعطاء رسول الله إياهم دون سائر قرابته‏.‏

هذا قول الشافعى، وأبى ثور‏.‏

وذهب قوم إلى أن قرابة رسول الله لا سهم لهم من الخمس معلومًا ولا حظ لهم خلاف حظ غيرهم‏.‏

وقالوا‏:‏ وإنما جعل الله لهم ما جعل من ذلك فى الآية المذكورة بحال فقرهم وحاجتهم؛ فأدخلوهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير والمسكين من ذلك بخروجهم من المعنى الذى استحقوا به ذلك، وهو الفقر، فكذلك قرابة رسول الله المذكورون معهم إذا استغنوا خرجوا من ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ ولو كان لقرابة رسول الله حظ لكانت فاطمة ابنته بينهم؛ إذ كانت أقربهم إليه نسبًا، وأمسهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظا فى السبى، ولا أخدمها، ولكن وكلها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الذى يرجو لها به الفوز من الله، والزلفى عنده‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ولو كان قسمًا مفروضًا لذوى القربى لأخدم ابنته، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليدع قسمًا اختاره الله لهم وامتن به عليهم؛ لأن ذلك حيف على المسلمين، واعتراض لما أفاء الله عليهم، فأخدم منه ناسًا، وتركه ابنته، ثم لم تدع فيه رضى الله عنها حقا لقرابة حين وكلها إلى التسبيح، ولو كان فرضًا لبينه تعالى كما بين فرائض المواريث‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وبذلك فعل أبو بكر وعمر بعد النبى صلى الله عليه وسلم قسما جميع الخمس، ولم يريا لقرابة رسول الله حقا، خلاف حق سائر الناس، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب رسول الله، ولا خالفهما فيها، إذا ثبت الإجماع من أبى بكر وعمر وجميع أصحاب النبى عليه السلام ثبت القول به، ووجب العمل به، وترك خلافه، وكذلك فعل على لما صار الأمر إليه، حمل الناس عليه، على ما ثبت فى الباب‏.‏

قال المهلب‏:‏ الأثرة بينة فى هذا الحديث، وذلك أن ابنة النبى لما استخدمته خادمًا، فعلمها من تحميده وتسبيحه وتكبيره ما هو أنفع لها بدوم النفع، وآثر بذلك الفقراء الذين كانوا فى المسجد؛ قد أوقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السنن على شبع بطونهم، لا يرغبون فى كسب مال ولا راحة عيال، فكأنهم استأجروا أنفسهم من الله بالقوت، فكان إيثار النبى لهم، وحرمان ابنته دليل واضح أن الخمس مرقوب للأوكد فالأوكد، وليس على من ذكر الله بالسوية كما زعم الشافعى لأنه آثر المساكين على ذوى القربى، وهم مذكورون فى الآية قبلهم، وإنما الأمر موكول فيه إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم، له أن يحرم من يشاء، ويعطى من يشاء‏.‏

وفيه‏:‏ أن طلبة العلم مقدمون فى خمس الغنائم على سائر من ذكر الله له فيها اسمًا‏.‏

وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن على بن أبى طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعلى وفاطمة‏:‏ ‏(‏لا أخدمكما وأدع أهل الصفة يطوون جوعًا، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه فأنفقه عليهم‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من النفقه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل فى الدنيا، وتسليهم عنها بما أعد الله للصابرين فى الآخرة‏.‏

وفيه‏:‏ دخول الرجل على ابنته، وهى راقدة مع زوجها‏.‏

وفيه‏:‏ جواز جلوسه بينهما، وهما راقدان ومباشرة قدميه وبعض جسده جسم ابنته، وجواز مباشرة ذوى المحارم، وهو خلاف قول مالك، وقول من أجاز ذلك أولى لموافقة الحديث له‏.‏

وفيه‏:‏ أن أقل الأعمال الصالحة خير مكافأة فى الآخرة من عظيم من أمور الدنيا، أن يكون التسبيح وهو قول‏:‏ خير أجرًا فى الآخرة من خادم فى الدنيا، وعنائها بالخدمة والسعاية عن مالكها، فكيف بالصلاة والحج وسائر الأعمال التى تستعمل فيها الأعضاء والبدن كله‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏

يَعْنِى‏:‏ ولِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِى فيه‏:‏ جَابِر، وُلِدَ لِرَجُلٍ غُلامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، فقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ‏)‏‏.‏

وقال جابر‏:‏ وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ‏:‏ لا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَخبر النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحْسَنَتِ الأنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ مُعَاوِيَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَاللَّهُ الْمُعْطِى، وَأَنَا الْقَاسِمُ‏)‏‏.‏- وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ خَوْلَة، قَالَ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ رِجَالا يَتَخَوَّضُونَ فِى مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وغرض البخارى فى هذا الباب أيضًا الرد على من جعل للنبى خمس الخمس ملكًا استدلالا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ‏(‏وهو قول الشافعي‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وقد قيل فى الغنائم كلها لله وللرسول، كما قيل فى الخمس لله وللرسول، أفكانت الأنفال كلها للنبى صلى الله عليه وسلم بل علم المسلمون أن الأمر فيها مردود إليه، فقسمها صلى الله عليه وسلم وكان فيها كرجل من المسلمين، بل لعل ما أخذ من ذلك أقل من حظ رجل، بلغنا أنه تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وقيل‏:‏ جملا لأبى جهل، وقد علم كل عاقل أنه لا يشرك بين الله ورسوله وبين أحد من الناس، وأن ما كان لله ولرسوله، فالمعنى فيه واحد؛ لأن طاعة الله طاعة رسوله‏.‏

وسئل الحسن بن محمد بن على عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ‏(‏قال‏:‏ هذا مفتاح كلام الله، الدنيا والآخرة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما خص بنسبة الخمس إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن ليس للغانمين فيه دعوى، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى رفعه فى بيت المال لما يخشى أن ينزل بالمسلمين رفعه، أو يجعله فيما يراه، وقد يقسم منه للغانمين، كما أنه يعطى من المغانم لغير الغانمين، كما قسم لجعفر وغيره ممن لم يشهد الوقعة، فالخمس وغيره إلى قسمته صلى الله عليه وسلم واجتهاد، وليس له فى الخمس ملك، ولا يمتلك من الدنيا إلا قدر حاجته، وغير ذلك كله عائد على المسلمين، وهذا معنى تسميته بقاسم، وليست هذه التسمية بموجبة ألا تكون أثر فى اجتهاده لقوم دون قوم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أحسنت الأنصار‏)‏ يعنى‏:‏ فى تعزيز نبيها، وتوقيره من أن يشارك فى كنيته، فيدخل عليه النعت عند النداء بغيره لتشوفه إلى الداعى، كما عرض له فى السوق، فنهى عن كنيته، وأباح اسمه للبركة المرجوة منه ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ فى التسمية من الفأل الحسن؛ لأنه من معنى الحمد؛ ليكون محمودًا من تسمى باسمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أعطيكم، ولا أمنعكم‏)‏ يقول‏:‏ الله يعطى فى الحقيقة، وهو يمنع، وإنما أعطيكم بقدر ما يسرنى الله له‏.‏

ومعنى حديث خولة فى هذا الباب، أن من أخذ من المقاسم شيئًا بغير قسم الرسول أو الإمام بعده، فقد تخوض فى مال الله بغير حق، ويأتى بما غل يوم القيامة‏.‏

وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله‏.‏

باب قَوْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُحِلَّتْ لَكُمُ الْغَنَائِمُ‏)‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏‏.‏

فَهِىَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم‏.‏

فيه‏:‏ عُرْوَةَ الْبَارِقِىِّ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ‏:‏ الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ‏:‏ لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا، وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ‏:‏ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ- يَعْنِى النَّارَ- لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولا، فَلْيُبَايِعْنِى مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، قَالَ‏:‏ فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِى قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ‏:‏ فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله ‏(‏فهى للعامة‏)‏ يعنى‏:‏ لجميع الناس، حتى يبين الرسول من يستحقها، وكيف تقسم، وقد بين الله بقوله‏:‏ ‏(‏واعلموا أنما غنمتهم من شيء فأن لله خمسه ‏(‏إلى‏)‏ السبيل ‏(‏وأما قوله‏:‏ ‏(‏وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ‏(‏فإنما خاطب بهذه الآية أهل الحديبية خاصة، ووعدهم بها، فلما انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر، وهى التى عجل لهم‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ ‏(‏وأثابهم فتحًا قريبًا ‏(‏يعنى‏:‏ خيبر‏)‏ وأخرى لم تقدروا عليها ‏(‏قال‏:‏ فارس والروم‏.‏

وقال مروان والمسور‏:‏ انصرف رسول الله من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، فقدم رسول الله المدينة فى ذى الحجة، وسار إلى خيبر فى المحرم، وقوله‏:‏ ‏(‏وكف أيدى الناس عنكم ‏(‏وحيالكم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث النبى الذى أمر ألا يتبعه من لم يتزوج‏:‏ فيه دليل أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع وتخيبها؛ لأن من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى بها، وكان على طراوة منها، فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها، وشغله الشيطان عما هو فيه من الطاعة، فرمى فى قلبه الجزع، وكذلك ما فى الدنيا من متاعها وقنيتها‏.‏

وفى قوله للشمس‏:‏ ‏(‏إنك مأمورة‏)‏ دليل فى الوم، وأصل فى العبادة على ضيق وقت العمل الذى الرأى فيه فى اليقظة، وثبات وقته، فيكون تنبيها على الأخذ بالحزم‏.‏

وفيه‏:‏ أن قتال آخر النهار وإذا هبت رياح النصر أفضل، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏احبسها علينا‏)‏ دعاء إلى الله أن يمد لهم الوقت حتى يفتحوا المدينة‏.‏

وقيل‏:‏ فى قوله‏:‏ ‏(‏احبسها علينا‏)‏ أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنها ردت على أدراجها‏.‏

وقيل‏:‏ أوقفت، فلم تبرح‏.‏

وقيل‏:‏ بطؤ تجريها وسيرها، وهو أولى الأقوال بجريها على العادة، وإن كان خرق العادة للأنبياء جائز، فكل الوجوه جائزة، وكانت المغانم للأنبياء المتقدمين يجمعونها فى برية، فتأتى نار من السماء فتحرقها، فإن كان فيها غلول أو مالاً يحل لم تأكلها، وكذلك كانوا يفعلون فى قربانهم، كان المتقبل تأكله النار وما لا يتقبل يبقى على حاله لا تأكله‏.‏

ودعاء هذا النبى قومه بالمبايعة بمصافحة أيديهم، اختبار منه للقبيل الذى فيهم الغلول، من أجل ظهور هذه الآية، وهى لصوق يد المبايع بيد النبي‏.‏

وفيه‏:‏ أن الأنبياء قد يحكمون فى الأشياء المعجزات بآيات يظهرها الله على أيديهم شهادة على ما التبس من أمر الحكم، وقد يحكمون أيضًا بحكم لا يكون آية معجزة، ويكون النبى وغيره من الحكام سواء، أو يكون اجتهادهم على حسب ما يتأدى إليهم من مقالة الخصمين؛ فذلك إنما هو ليكون سنة لمن بعدهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن الغنائم لم تحل لأحد غير محمد وأمته‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على تجديد البيعة إذا احتيج إلى ذلك لأمر وقع، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة‏.‏

وفيه‏:‏ جواز إحراق أموال المشركين وما غنم منها‏.‏

باب‏:‏ الغَنِيمَةُ لمِنَ شَهِدَ الوَقْعَةَ

- وفيه‏:‏ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ، مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ‏.‏

فيه‏:‏ الغنيمة لمن شهد الوقعة‏.‏

وهو قول أبى بكر وعمر، وعليه جماعة الفقهاء‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن رسول الله قسم لجعفر بن أبى طالب، ومن قدم فى سفينة أبى موسى من غنائم خيبر، وهم لم يشهدوها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن خيبر مخصوصة بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم غير خيبر لمن لم يشهدها، فلا يجوز أن تجعل خيبر أصلا يقاس عليه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قسم من خيبر لأصحاب السفينة؛ لشدة حاجتهم فى بدء الإسلام، بأنهم كانوا للأنصار تحت منح من النخيل والمواشى لحاجتهم، فضاقت بذلك إخوان الأنصار، وكان المهاجرون من ذلك فى شغل بال ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ عوض الرسول المهاجرين، ورد إلى الأنصار منائحهم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم استطاب أنفس أهل الغنيمة، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، وسنذكره عن ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ ونذكر هناك وجوهًا أخر للعلماء فى إسهام النبى لأهل السفينة من غنائم خيبر‏.‏

واما قول عمر‏:‏ ‏(‏لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما فعل رسول الله بخيبر‏)‏ فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم الأرض، فقال أبو عبيد‏:‏ وجدنا الآثار عن الرسول والخلفاء بعده قد جاءت فى افتتاح الأرض بثلاثة أحكام‏:‏ أرض أسلم عليها أهلها فهى لهم ملك، وهى أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحًا على خراج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه، لا يلزمهم أكثر منه، وأرض افتتحت عنوة، فهى التى اختلف فيها المسلمون، فقال بعضهم‏:‏ سبيلها سبيل الغنيمة، فتكون أربعة أخماسها حصصا بين الذين افتتحوها، والخمس الباقى لمن سمى الله‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا قول الشافعى، وأبى ثور، وبه أشار الزبير بن العوام على عمرو ابن العاص حين افتتح مصر‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام، إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله بخيبر، فذلك له، وإن رأى أن يجعلها موقوفة على المسلمين ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد، فذلك له‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وهذا قول أبى حنيفة والثورى وأبى يوسف ومحمد‏.‏

وشذ مالك فى ‏(‏المدونة‏)‏ فى حكم أرض العنوة، وقال‏:‏ يجتهد فيها الإمام، وقال فى العتبية، وكتاب ابن المواز من سماع ابن القاسم‏:‏ العمل فى أرض العنوة على فعل عمر لا تقسم، وتقر بحالها، وقد ألح بلال وأصحاب له على عمر، فقسم الأرض بالشام، فقال‏:‏ اللهم اكفنيهم فما أتى الحول، وبقى منهم أحد‏.‏

قال مالك‏:‏ ومن أسلم من أرض العنوة، فلا تكون له أرضه ولا داره‏.‏

وأما من صالح على أرضه، ومنع أهل الإسلام من الدخول عليهم إلا بعد الصلح، فإن الأرض لهم، وإن أسلموا فهى لهم أيضًا، ويسقط عنهم خراج أرضهم و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ من أسلم من أهل العنوة أحرز نفسه وماله، وأما الأرض فللمسلمين، وماله وكل ما كسب له؛ لأن من أسلم على شيء فى يده كان له، والحجة لقول الشافعى أن الأرض تقسم كما قسم رسول الله خيبر، وتأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ‏(‏فدخل فى هذا العموم الأرض وغيرها فوجب قسمها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وذهب الشافعى إلى أن عمر استطاب أنفس الذين افتتحوا الأرض، وأنكر أبو عبيد أن يكون استطاب أنفسهم‏.‏

وذهب الكوفيون إلى أن عمر حدث عن الرسول أنه قسم خيبر، وقال‏:‏ لولا آخر الناس لفعلت ذلك، فقد بين أن الحكمين جميعًا إليه، لولا ذلك ما تعدى سنة رسول الله إلى غيرها، وهو يعرفها‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومن الحجة فى ذلك ما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبى الزبير، عن جابر قال‏:‏ أفاء الله خيبر، فأقرهم على ما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، وبعث ابن رواحة يخرصها عليهم، فثبت أن رسول الله لم يكن قسم خيبر بكمالها، ولكنه قسم منها طائفة على ما ذكره عمر، وترك منها طائفة لم يقسمها على ما روى جابر، وهى التى خرصها عليهم، والذى كان قسم منها وهو الشق النطاة، وترك سائرها فعلمنا أنه قسم منها وترك، فللإمام أن يفعل من ذلك ما رآه صلاحًا‏.‏

واحتج عمر فى ترك قسمة الأرض بقوله‏:‏ ‏(‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين ‏(‏،‏)‏ والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ‏(‏إلى‏)‏ والذين جاءوا من بعدهم‏}‏ الآية‏.‏

وقال عمر‏:‏ هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم، فلم يبق أحد إلا له فى هذا المال حق، حتى الراعى بعدله‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وإلى هذه الآية ذهب على ومعاذ، وأشارا على عمر بإقرار الأرض لمن يأتى بعد‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ فكان الحكم بهذه الآية فى الأرض أن تكون موقوفة كما تكون الأوقاف التى يقفها الناس أصلها محبوس، ويقسم ما يخرج منها، فكان معنى قول عمر‏:‏ لولا الحكم الذى أنزل الله فى القرآن لقسمت الأصول، وهذا لا يشكل على ذى نظر، وعليه جرى المسلمون ورأوه صوابًا‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ والذين قاتلوا حتى غنموا لم يكن لهم فى الأصل أن يعطوا ذلك؛ لأنهم إنما قاتلوا لله لا للمغنم، ولو قاتلوا للمغنم لم يكونوا مجاهدين فى سبيل الله‏.‏

قال عمر‏:‏ إن الرجل ليقاتل للمغنم، ويقاتل ليرى مكانه، وإنما المجاهد من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا‏.‏

فلما كان أصل الجهاد أن يكون خالصًا لله، وكان إعطاؤهم ما أعطوا من المغانم، إنما هو تفضل من الله على هذه الأمة أعطوا ذلك فى وقت، ومنعوه فى وقت، فأعطوا من المغانم ما ليس له أصل يبقى فاشترك فيه المسلمون كلهم، ومنعوا الأصل الذى يبقى، فلم يكن فى ذلك ظلم لهم؛ لأن ثواب الله الذى قصدوه جار لهم فى كل شيء ينتفع به من الأصول التى افتتحوها، ما دامت وبقيت‏.‏

وحكى الطحاوى عن الكوفيين أن الإمام إذا أقرهم أرض العنوة أنها ملك لهم، يجرى عليهم فيها الخراج إلى الأبد أسلموا أو لم يسلموا، وإنما حملهم على هذا التأويل أنهم قالوا‏:‏ إن عمر جعل على جريب النخل فى أرض السواد بالعراق شيئًا معلومًا فى كل عام، فلو لم تكن لهم الأرض لكان يبيع التمر قبل أن يظهر‏.‏

قال أبو جعفر الداودى‏:‏ ولا أعلم أحدًا من الصحابة قال بقول أهل الكوفة‏.‏

واحتج من خالفهم بأن الأرض كلها كانت لا شجر فيها فإنما اعتبر ما يصلح أن يوضع فيها، فمن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه البر جعل عليه بقدر ذلك، وإن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه الشعير جعل عليه بقدر ذلك، ومن اكترى ما يصلح أن يجعل فيه الشجر جعل عليه بقدر ذلك، لا على أن الشجر كانت فى الأرض يومئذ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قول الكوفيين مخالف للكتاب والسنة؛ إذ حلت الغنائم للمسلمين، فإذا افتتحت الأرض فاسم الغنيمة واقع عليها كما يقع على المال سواء، فإن رأى الإمام أبقى الأرض لمن يأى بعد، فإنما يبقيها ملكًا للمسلمين من أجل أنها غنيمة، كما فعل عمر، فمن زعم أن الأرض تبقى ملكًا لمشركين فهو مضاد لحكم الله وحكم رسوله، فلا وجه لقوله‏.‏

وروى الليث، عن يونس، عن ابن شهاب أن رسول الله افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها وقسمها بين المسلمين، وترك من ترك من أهلها على الجلاء بعد القتال فدعاهم الرسول فقال‏:‏ إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوا بها، ويكون ثمرها بيننا وبينكم، وأقركم ما أقركم الله‏.‏

فقبلوا الأموال على ذلك، وروى يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أن رسول الله لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقى بين المسلمين فلما صار ذلك بيد رسول الله لم يكن له من العمال ما يكفونه عملها، فدفعها رسول الله إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرج منها، فلم يزل الأمر على ذلك حياة النبى، وحياة أبى بكر حتى كان عمر وكثر العمال فى أيدى المسلمين، وقروا على عمل الأرض، وأجلى عمر اليهود إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم، فهذا كله يرد قول الكوفيين، ويبين أنهم إنما أبقوا فى الأرض عمالا للمسلمين فقط، فلما أغنى الله عنهم أخرجوا منها‏.‏

باب‏:‏ مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغنَمِ هَل يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ

فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى،، قَالَ‏:‏ قَالَ أَعْرَابِىٌّ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ من قاتل فى سبيل الله ونوى بعد إعلاء كلمة الله ما شاء فهو فى سبيل الله، والله أعلم بمواقع أجورهم، ولا يصلح لمسلم أن يقاتل إلا ونيته مبنية على الغضب لله، والرغبة فى إعلاء كلمته، ويدل على ذلك أنه قد يقاتل من لا يرجو أن يسلبه من عريان، ولا شيء معه، فيغرر مهجته مستلذًا لذلك، ولو أعطى ملء الأرض على أن يغرر مهجته فى غير سبيل الله ما غرر، ولكن سهل عليه ركوب ذلك استلذاذا بإعلاء كلمة الله، ونكاية عدوه والغضب لدينه‏.‏

وقد تقدم فى باب قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏ فى كتاب الإيمان أن ما كان ابتداؤه فيه من الأعمال لله لم يضره بعد ذلك ما عرض فى نفسه، وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء اطلاع العباد عليه بعد مضيه على ما ندبه الله إليه، ولا سروره بذلك، وإنما المكروه أن يبتدئه بنية غير مخلصة لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب‏.‏

باب قِسْمَةِ الإمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ

فيه‏:‏ الْمِسْور‏:‏ أُهْدِيَتْ للنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَجَاءَ مَخْرَمَةَ إلى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ صَوْتَه، فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا الْمِسْوَرِ، خَبَأْتُ لَكَ هَذَا‏)‏، مرتين، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شِدَّةٌ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ما أهدى للنبى من هدايا المشركين فحلال له أخذه؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار، ويكون له دون سائر الناس، وله أن يؤثر به من شاء، ويمنع منه من شاء، كما يفعل بالفيء، ولذلك خبأ القباء لمخرمة، ومن بعده من الخلفاء بخلافه فى ذلك لا يكون له خاصة دون المسلمين؛ لأنه إنما أهدى إليه؛ لأنه أميرهم، ويأتى القول فى هدايا المشركين فى باب‏:‏ الهبة إن شاء الله‏.‏

وفيه ما كان عليه النبى من كريم الخلق ولين الكلمة، والتواضع، ألا ترى أنه استقبل مخرمة بأزرار القباء، وكناه مرتين وألطف له فى القول، وأراه إيثاره باعتناءه به فى مغيبه؛ لقوله‏:‏ ‏(‏خبأت لك هذا‏)‏ لما علم من شدة خلقه، فترضاه بذلك، فينبغى الاقتداء به فى فعله صلى الله عليه وسلم‏.‏